كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا معنى حسن من جهة اللسان؛ وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله؛ لأن المعنى عندهم {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير قبيلتكم؛ على أنه قد عورض هذا القول بأنّ في أوّل الآية {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} فخوطب الجماعة من المؤمنين.
السابعة استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم؛ قال: ومعنى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير أهل دينكم؛ فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض؛ فيقال له: أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية؛ لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها؛ فلا يصح احتجاجك بها.
فإن قيل: هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق؛ ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه، وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهل الذمة أولى؛ ثم دلّ الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين؛ فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين؛ فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى.
والله أعلم.
الثامنة قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي سافرتم؛ وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم؛ ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما؛ وادّعوا عليهما خيانة؛ فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصَّلاة؛ أي تستوثقوا منهما؛ وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة؛ قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى؛ ورزِية كبرى؛ فأعظم منه الغفلة عنه؛ والإعراض عن ذكره؛ وترك التفكر فيه؛ وترك العمل له؛ وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر؛ وفكرة لمن تفكّر.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينًا» ويروى أن أعرابيًا كان يسير على جمل له؛ فخر الجمل ميتًا فنزل الأعرابيّ عنه؛ وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: ما لك لا تقوم؟! مالك لا تنبعث؟! هذه أعضاؤك كاملة؛ وجوارحك سالمة؛ ما شأنك؟! ما الذي كان يحملك؟! ما الذي كان يبعثك؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك؟! ثم تركه وانصرف متفكرًا في شأنه؛ متعجبًا من أمره.
التاسعة قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا} قال أبو علي: {تَحْبِسُونَهُمَا} صفة لـ{آخران} واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: {إنْ أَنْتُمْ}.
وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حقّ؛ والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجّلًا؛ ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلاَّ مؤجلًا؛ فإن خُلّي مَنْ عليه الحق غاب واختفى وبطل الحَق وتوِي فلم يكن بدّ من التوثق منه؛ فإما بعِوض عن الحق وهو المسمى رهنًا؛ وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحمِيل؛ وهو دون الأوّل؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره؛ ولكن لا يمكن أكثر من هذا؛ فإن تعذرا جميعًا لم يبق إلاَّ التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق؛ أو تَبيّن عسرته.
العاشرة فإن كان الحق بدنيًا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجّلًا؛ لم يكن فيه إلاَّ التوثق بسجنه؛ ولأجل هذه الحكمة شرِع السجن؛ روى أبو داود والترمذيّ وغيرهما عن بَهْزِ بن حكِيم عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمة» وروى أبو داود عن عمرو بن الشَّرِيد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَه وعُقوبَته» قال ابن المبارك يحلُّ عِرضَه يُغَلّظ له، وعقوبته يُحبَس له.
قال الخطّابي: الحبس على ضربين؛ حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلاَّ في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه؛ وقد روي أنه حَبَس رجلًا في تهمة ساعة من نهار ثم خَلّى عنه.
وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شُرَيح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلاَّ أمر به إلى السجن.
الحادية عشرة قوله تعالى: {مِن بَعْدِ الصلاة} يريد صلاة العصر؛ قاله الأكثر من العلماء؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة.
وقال الحسن: صلاة الظهر.
وقيل: أي صلاة كانت.
وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران؛ قاله السديّ.
وقيل: إن فائدة اشتراطه بعد الصَّلاة تعظيمًا للوقت، وإرهابًا به، لشهود الملائكة ذلك الوقت؛ وفي الصحيح: «من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان».
الثانية عشرة هذه الآية أصل في التغليظ في الإيمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء: أحدها الزمان كما ذكرنا.
الثاني؛ المكان كالمسجد والمنبر، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها؛ وإلى هذا القول ذهب البخاريّ رحمه الله حيث ترجم «باب يَحلِف المدَّعَى عليه حيثما وجَبَت عليه اليمينُ ولا يُصرَف من موضع إلى غيره».
وقال مالك والشافعي: ويُجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها، فيحلف بين الركن والمقام، ويُجلب إلى المدينة من كان من أعمالها، فيحلف عند المنبر.
الثالث الحال؛ روى مُطَرِّف وابن الماجِشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائمًا مستقبل القبلة؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر.
وقال ابن كنانة: يحلف جالسًا؛ قال ابن العربيّ: والذي عندي أنه يحلف كما يُحكم عليه بها إن كان قائمًا فقائمًا وإن جالسًا فجالسًا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس.
قلت: قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث عَلْقَمة بن وائل عن أبيه: «فانطلق ليحلف» القيامَ والله أعلم أخرجه مسلم.
الرابع التغليظ باللفظ؛ فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه؛ لقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بالله} وقوله: {قُلْ إِي وربي} [يونس: 53] وقال: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] وقوله عليه السَّلام: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو لِيَصْمُتْ» وقول الرجل: والله لا أُزيد عليهنّ.
وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما له عندي حق، وما ادعاه عليّ باطل؛ والحجة له ما رواه أبو داود حدّثنا مسدّد قال حدّثنا أبو الأحوص قال حدّثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يعني لرجل حلفه: «احلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما له عندك شيء» يعني للمدّعي؛ قال أبو داود: أبو يحيى اسمه زياد كُوفي ثقةٌ ثَبْت.
وقال الكوفيون: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين؛ فيحلفه بالله الذي لا إله إلاَّ هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وزاد أصحاب الشافعيّ التغليظ بالمصحف.
قال ابن العربي: وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة.
وزعم الشافعيّ أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ويرويه عن ابن عباس، ولم يصح.
قلت: وفي كتاب «المهذب» وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مُطرِّف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرّفًا بصنعاء يحلف على المصحف؛ قال الشافعيّ: وهو حَسَنٌ.
قال ابن المنذرِ: وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف.
قلت: قد تقدّم في الأيمان: وكان قتادة يحلف بالمصحف.
وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك؛ حكاه عنهما ابن المنذر.
الثالثة عشرة اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق؛ فقال مالك: لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسًا على القطع، وكلُّ مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العَضْو فهو عظيم.
وقال الشافعيّ: لا تكون اليمين في ذلك في أقلَّ من عشرين دينارًا قياسًا على الزكاة، وكذلك عند مِنْبَر كل مسجد.
الرابعة عشرة قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بالله} الفاء في {فَيُقْسِمَانِ} عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن {تَحْبِسُونَهُمَا} معناه احبسوهما، أي لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال: إذا حبستموهما أقسما؛ قال ذو الرُّمة:
وَإنسانُ عيْني يَحْسِرُ الماءَ مرةً ** فيَبْدوا وتَاراتٍ يَجِمّ فَيَغْرَقُ

تقديره عندهم: إذا حسر بدا.
الخامسة عشرة واختلف مَن المراد بقوله: {فَيُقْسِمَانِ}؟ فقيل: الوصيان إذا ارتيب في قولهما.
وقيل: الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلّفهما.
قال ابن العربيّ مبطلًا لهذا القول: والذي سمعت وهو بدعة عن ابن أبي ليلى أنه يحلِّف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق؛ وحينئذٍ يُقْضَى له بالحق؛ وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه؛ هذا في المدعى فكيْف يحبس الشاهد أو يحلف؟ا هذا ما لا يلتفت إليه.
قلت: وقد تقدّم من قول الطبريّ في أنه لا يُعلَم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين.
وقد قيل: إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مُدَّعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال.
السادسة عشرة قوله تعالى: {إِنِ ارتبتم} شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلاَّ به، ومتى لم يقع رَيْبٌ ولا اختلاف فلا يمين.
قال ابن عطية: أما أنه يظهر من حكم أبي موسى في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها؛ روى أبو داود عن الشعبيّ: أن رجلًا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقَاء هذه، ولم يجد أحدًا من المسلمين حضره يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدِما الكوفة فأتيا الأشعريّ فأخبراه؛ وقدِما بتركته ووصيته؛ فقال الأشعريّ: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأحلفهما بعد العصر: «بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا وإنها لوصِية الرجل وتركته» فأمضى شهادتهما.
قال ابن عطية: وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض، وتقع مع ذلك اليمين عنده؛ وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلاَّ أن يكون الإرتياب في خيانة أو تعدّ بوجه من وجوه التعدّي؛ فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكِر لا على أنّه تكميل للشهادة.
قال ابن العربيّ: يمين الريبة والتهمة على قسمين: أحدهما ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين.
الثاني التهمة المطلقة في الحقوق والحدود، وله تفصيل بيانه في كتب الفروع؛ وقد تحققت هاهنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات.
السابعة عشرة الشرط في قوله: {إِنِ ارتبتم} يتعلق بقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} لا بقوله: {فَيُقْسِمَانِ} لأن هذا الحبس سبب القسم.